1)الثقة في رزق الله
عن حبة وسواء ابني خالد رضي الله عنه أنهما أتيا رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يعمل عملا يبني بناء ، فلما فرغ دعانا فقال : " لا تنافسا في الرزق ما تهزهزت رءوسكما ، فإن الإنسان يلده أمه أحمر ليس عليه قشر ، ثم يعطيه الله ويرزقه " .
أخي المسلم : في هذه " الوصية " يطمئن النبي صلي الله عليه وسلم الناس بأن الرزق يبد الله تعالى وحده فإذا أيقن الإنسان بذلك ، فرغ قلبه لعبادة ربه ، وأزاح عن كاهله كابوس هم الرزق ، وجعل الهموم هما واحدا ، هم واحدا ، هم مرضاة ربه . والآيات والأحاديث في هذا المعني كثيرة منها :
قوله تعالى : " وفي السماء رزقكم وما توعدون J فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تتطقون ".
قال الحسن ـ رحمه الله تعالى ـ في هذه الآية : بلغني أن النبي صلي الله عليه وسلم قال :" قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه !
قال الله تعالى : " فورب السماء والأرض إنه لحق " .
وقال الأصمعي : " أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة فلطلع أعرابي جاف على قعود له متقلداً سيفه و بيده قوسه فدنا و سلم و قال : ممن الرجل ؟
قلت : من بني أصمع .
قال : أنت الأصمعي ؟
قلت : نعم .
قال : ومن أين أقبلت ؟
قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن .
قال : وللرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟
قلت : نعم .
قال : فاتل على منه شيئا .
فقرأت " والذاريات ذروا " إلى قوله " وفي السماء رزقكم وما توعدون " .
فقال : يا أصمعي حسبك !! .
ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها ، وقال : أعني على توزيعها ، ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعها تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول :" وفي السماء رزقكم وما توعدون " .
فمقت نفسي ولمتها ، ثم حججت مع " الرشيد " ، فبينما أنا أطرف إذا أنا بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر ، فسلم على وأخذ بيدي وقال : اتل على كلام الرحمن ، وأجلسني من وراء المقام فقرأت : " والذاريات " حتى وصلت إلى قوله تعالى : " وفي السماء رزقكم وما توعدون "
فقال الأعرابي : لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا ، وقال : وهل غير هذا ؟
قلت : نعم ، يقول الله تبارك وتعالى : " فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " .
قال : فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى حلف ! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين ؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه !!!.
وقوله تعالى : " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " . أخبر ـ سبحانه وتعالى ـ في هذه الآية برزق الجميع ، والدابة كل حيوان يدب والرزق حقيقة ما يتغذى به الحي ، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده . قيل لحاتم الأصم : من أين تأكل ؟
فقال : من عند الله .
فقيل له : الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء ؟
فقال : كأن ماله إلا السماء ! يا هذا الأرض له والسماء له ، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض وأنشد :
ورازق هذا الخلق في العسر واليسر وكيف أخاف الفقر والله رازقي
وللضب في البيداء والحوت في البحر تكفل بالأرزاق للخلق كلهم
وذكر الترمذى الحكيم في " نوادر الأصول " بإسناده عن زيد بن أسلم : أن الأشعريين أبا موسى وأبا ومالك وأبا عامر في نفر منهم ، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك وقد أرملوا من الزاد ، فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم يسأله ، فلما انتهى إلى الباب رسول الله صلي الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية : " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " . فقال الرجل : ما الأشعريون بأهون الدواب على الله بأهون الدواب على الله . فرجع ولم يدخل على رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث ، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلي الله عليه وسلم فوعده ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاءوا ، ثم قال بعضهم لبعض : لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ليقضي به حاجته . فقالوا للرجلين : اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا ، ثم إنهم أتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به . قال : " ما أرسلت إليكم طعاما " . فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم ، فسأله رسول الله عليه وسلم فأخبره ما صنع ، وما قال لهم . فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " ذلك شيء رزقكموه الله " .
قصة
" روى أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابه جائحة فحزنوا لأجله فخرجت عليهم أعرابية فقالت : مالي أراكم قد نكستم رؤؤسكم ، وضاقت صدوركم ، هو ربنا والعالم بنا ، ورزقنا عليه يأتينا به حيث شاء ! ثم أنشأت تقول :
صما ململمة ملسا نواحيها لو في صخرة في البحر راسية
حتى تؤدى إليها كل ما فيها رزق لنفس براها الله لانفلقت
لسهل الله في المرقي مراقيها أو كان بين طباق السبع مسلكها
إن لم تنله وإلا سوف يأتيها حتى تنال الذي في اللوح خط لها
ومن الأحاديث : عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله لي الله عله وسلم : " يا أيها الناس اتقوا الله ، واجملوا في الطلب ، فإن لن تموت حتى تستوفي رزقها ، وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، خذوا ما حل ودعوا ما حرم " وعن أبى الدراء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله " . ورواه الطبراني بإسناد جيد إلا أنه قال : " إن ارزق ليطلب العبد أكثر مم يطلبه أجله " . وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " لو فر أحدكم من رزقه أدركه كما يدركه الموت " .
فيا من طويت فسيح الأرض ملتمسا
مالا وأنت بالأموال موعود
قد تحرم الأسد قسرا عن فريستها
وفي صخور الفيافي يرزق الدود
لا شيء أعجب في الأنام من رجل
يرجو الخلائق والخلاق موجود
حكاية
قيل : إن حاتم الأصم ــ رحمه الله قال لأولاده : إني أريد الحج . فبكوا وقالوا إلى من تكلنا ؟
فقالت ابنته لهم : اسكتوا دعوه فليس هو برازق إن الله هو الرازق . فباتوا جياعا وجعلوا يوبخون البنت ، فقالت : " اللهم لا تخجلي بينهم " .
فمر أمير البلد وطلب ماء فناوله أهل حاتم كوزا جديدا فيه ماء بارد فشرب ، وقال : دار من هذه ؟
فقالوا : حاتم الأصم .
فرمي فيها منطقة من ذهب . وقال لأصحابه : من أحبني فعل مثلي ، فرمي من حوله كلهم مثله !! فجعلت بنت حاتم تبكي !
فقالت لها أمها : ما يبكيك وقد وسع الله علينا ؟!.
فقالت : مخلوق نظر إلينا فاستغنينا ، أي : فما ظنك بالخالق جل وعلا الذي سخر لنا هذا المخلوق فعطفه علينا .
قلت : وهذا مقام جليل من مقامات التوكيل ، والثقة في الله تعالى .
قال عامر بن عبد قيس : أربع آيات في كتاب الله إذا ذكرتهن لا أبالى على ما أصبحت أو أمسيت :
1ـ " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " .
2ـ " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو " .
3ـ " سيجعل الله بعد عسر يسرا " .
4ـ " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " ، ومعنى حسبه : أي كافيه وهاديه .
والنبي صلي الله عليه وسلم يقول : " لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا " .
وعن أبى ذر رضي الله عنه قال : جعل رسول الله صلي الله عليه وسلم يتلو هذه الآية : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا J ويرزقه من حيث لا يحتسب " .
فجعل يرددها حتى نعست ، فقال : " يا أبا ذر لو أن الناس أخذوا بها لكفتهم " .
يقين أطفال الصحابة
روى أن صحابيا رأى طفلا في " المسجد " يصلى بخشوع وإتقان فقال له بعد صلاته : ابن من أنت ؟
فقال : إني يتيم فقدت أبي وأمي !.
فقال : أترضي أن تكون لي ولدا ؟
فقال : هل تطعمني إذا جعت ؟
قال : نعم
قال: وهل تكسوني إذا عريت ؟
قال : نعم
قال : وهل تحييني إذا مت ؟
فدهش الصحابي وقال : هذا ليس إليه سبيل
فأشاح الصبي بوجهه وقال : إذن اتركني للذي خلقني ثم رزقني ثم يحييني
فقال الصحابي : لعمري من توكل على الله كفاه.
الربط بين الأسباب والمسببات :
وفي " الوصية " إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها ، فالرواية تقول : عن حبة وسواء ابني خالد ـ رضي الله عنهما ـ أنهما أتيا رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يعمل عملا يبني بناء !! وهذا من الأسباب.
ثم تقول الرواية :
فلما فرغ دعانا فقال : " لا تنافسا في الرزق ما تهزهزت رءوسكما ، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ، ثم يعطيه الله ويرزقه " . وهذا من التوكل . فدل على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها .
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : " لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكيل ، فإن تركها عجزا ينافي التوكيل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولابد مع هذا الاعتماد على مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ، ولا توكله عجزا " وقد ثبت أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه : " اعقلها وتوكل " .
والتوكل : اعتماد القلب على الله في جلب المنافع المضار ، مع الثقة بالله وفعل الأسباب :
فلا مهرب مما قضاه وخطه وكن بالذي قد خط باللوح راضيا
وقد يتعدى إن تعديت شرطه وإن مع الرزق اشتراط التماسه
ولكنه أوحى إلى الطير لقطه ولو شاء ألقي في فم الطير قوته
وقال الله تعالى : " فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور " .
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير لهذه الآية : ـ " أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئا إلا أن ييسره الله عليكم ، ولهذا قال تعالى : " وكلوا من رزقه " فالسعي في السبب لا ينافي التوكل وفي الحديث : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " ، فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخر المسير المسبب " .
ودعا النبي صلي الله عليه وسلم أتباعه إلى الأخذ بالأسباب وترك التواكل ، وحذر من المسألة :
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " لأن يأخذ أحدكم أحلبه فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فكيف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه " .
وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " ما أكل أحد طعاما خيرا من أن بأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده " .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلي الله عليه وسلم فسأله ، فقال : " أما في بيتك شيء ؟ "
قال: بلى . حلس نلبس بعضه ، ونبسط بعضه ، وقعب نشرب فيه من الماء .
قال : " ائتني بهما " .
فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلي الله عليه وسلم بيده ، وقال : " من يشترى هذين ؟ "
قال رجل : أنا آخذهما بدرهم .
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من يزيد على درهم " مرتين أو ثلاثا .
قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين ، فأعطاهما إياه ، وخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري ، وقال : " اشترى بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوما فأتني به " .
فأتاه به فشد فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم عودا بيده ، ثم قال له : " اذهب فاحتطب وبع ، ولا أرينك خمسة عشر يوما " .
ففعل فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " هذا خير لك من أن تجيء المسالة نكتة في وجهك يوم القيامة ، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث : لذي فقر مدفع ، أو لذي غرم مفظع ،أو لذي دم موجع " . رواه أبو داود .
عفاف أصحاب النبي وعلو همتهم :
وهذا نموذج كريم ، عطر صفحات التاريخ بموقف خالد : قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : " لما قدمنا المدينة ، آخي رسول الله صلي الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع ، فقال سعد بن الربيع : إني أكثر الأنصار مالا . فأقسم لك نصف مالي ، وانظر أي زوجتي هويت ، نزلت لك عنها ، فإذا حلت تزوجتها .
فقال له عبد الرحمن : لا حاجة لي في ذلك ، هل من سوق فيه تجارة؟
قال : سوق " قينقاع " .
فغدا إليه عبد الرحمن ، فأتي بأقط وسمن ، ثم تابع الغدو ، فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة ، فقال رسول اله صلي الله عليه وسلم : " تزوجت ؟ "
قال : نعم
قال : " من ؟ "
قال : امرأة من الأنصار .
قال : " كم سقت؟ " .
قال : زنه نواة من ذب ، أو نواة من ذهب
فقال له النبي صلي الله عليه وسلم : " أولم ولو بشاة "
هكذا كان أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم .. علموا أن من كرس حياته للحق والخير ، فعلمه عبادة ، وكل قطرة عرق تبذل فيه فهي آية جهاد ، توضع في موازين المرء مع صلاته وزكاته ، فالعمل هو وسيلة البقاء ، والوسيلة تتبع الغاية في رفها وخستها . مسك الختام روي عن على بن الموفق ـ رحمه الله ـ أنه قال : خرجت يوما لأؤذن فأصبت قرطاسا فأخذته ووضعته في كمي وأقمت الصلاة وصليت ، فلما قرأته فإذا فيه مكتوب :"بسم الله الرحمن الرحيم ، يا علي بن الموفق أتخاف الفقر وأنا ربك !".
2)أهمية الدعوة إلى الله
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب على متعمدا فليتنبوأ مقعده من النار " .
مدح الله تعالى الأمة الإسلامية بقوله : " كنتم خيرا أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون با لله " . فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح كما قال قتادة : بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها ، أي من الناس دعة ، فقرأ هذه الآية : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ثم قال : " من سره أن يكون من هذه الأمة ، فليؤد شرط الله فيها " ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى : " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " وفي هذه " الوصية " : عظم النبي صلي الله عليه وسلم شأن الدعوة إلى الله تعالى ، وأمر أمته بالبلاغ ، فقال : " بلغوا عني ولو آية " . فلا حجة لمسلم بعد هذا في ترك الدعوة إلى الله تعالى . قال المعافي النهرواني ـرحمه الله ـ في قوله صلي الله عليه وسلم : " ولو آية " : " أي واحدة ليسارع كل سامع إلى تبلغ ما وقع له من الآي ولو قل ليتصل بذلك نقل جميع ما جاء به صلي الله عليه وسلم"
هذا والعصر الذي نعيش فيه هو أشد العصور فقرا إلى الاتصال بالسماء ، والانعطاف إلى الدن ، والتوقير لكلمات الله . فالعالم ـ اليوم ـ يحتاج إلى أن يعرف الله كما عرف نفسه إلى عباده في القرآن . محتاج إلى أن يعرف "محمدا " صلي الله عليه وسلم وأن يدرس سيرته دراسة بعيدة عن التزايد والأهواء. محتاج إلى أن جملة الحقائق التي جاء بها الإسلام من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات . ولو أن الأقدار يسرب تقريبه وتحقيقه للعالمين لا ستفاد منه البشر أجمعون . ولكن كم خسر العلم من انحطاط المسلمين ؟ روى ابن وضاح في كتاب "البدع والنهي عنها": عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه "أنه أخذ الحصاة بيضاء ، فوضعها في كفه ، ثم قال : إن هذا الدين قد استضاء إضاءة هذه الحصاة . ثم أخذ كفا من تراب ، فجعل يذره على الحصاة حتى واراها ، ثم قال :"والذي نفسي بيده ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما أخبر النبي صلي الله عليه وسلم . فعن أبي أيوب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله " .
ودور الأمة الإسلامية ـ اليوم ـ : محاولة استعادة مجدها بتجديد ما اندرس من معالم دينها في حياتها . فوظيفتها في حياتها . فوظيفتها آلتي خلقت من أجلها : حراسة وحي السماء ، وإبقاء مناره عاليا يومض بالإشعاع الهادي كي يهتدي به السائرون في ظلمات البر والبحر . " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون " . إن وقوف الأمة الإسلامية في خندق واحد للدفاع عن حرمات دينها والذود عن حياضه ، وتطبيق أحكامه واحترام جنابه ، هو السبيل الوحيد لإنقاذ نفسها من وهدتها السحيقة التي سقطت فيها : " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم " . وها هو النبي صلي الله عليه وسلم يأمرنا بالاستنفار العام ، فيقول : " بلغوا عني ولو آية " .إن قيام جماهير الأمة الإسلامية ـ فيما مضي ـ بذلك الواجب ابقى شعائر الإسلام حية في المجتمع ، وجعل أمام العصاة والمنحلين حواجز مرهبة ، ولن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " فهل من مدكر " .
قوله صلي الله عليه وسلم : " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " : لا ضيق عليكم في الحديث عنهم لأنه كان تقدم منه صلي الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم ثم حصل الوسع في ذلك ، وكن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة ، ثم ما زال المخدور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار .
وقيل : معني قوله :" ولا حرج " : لا تضيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب فإن ذلك وقع لهم كثيرا .
وقيل : لا حرج في أن تحدوا عنهم لأن قوله أولا : " حدثوا " صيغة أمر تقتضي الوجوب فأشار إلى عدم الوجوب وأن الأمر فيه للإباحة بقوله : " ولا حرج " أي في ترك الحديث عنهم وقال مالك ـ رحمه الله تعالى ـ : " المراد : جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن أما ما علم كذبه فلا " وقيل : المعني حدثوا عنهم بمثل ما ورد في القرآن والحديث الصحيح .
وقال الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ : " من المعلوم أن النبي صلي الله عليه وسلم لا يجير التحدث بالكذب ، فالمعني : حدثوا عن نبي إسرائيل بما لا تعلمون كذبه ، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم ، وهو نظير قوله : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه " .
خلاصة القول في حكم رواية الإسرائيليات :
وخلاصة القول في حكم رواية الإسرائيليات : أن ما جاء لما في شرعنا صدقناه ، وجازت روايته ، وما جاء مخالفا لما في شرعنا كذبناه وحرمت روايته إلا لبيان بطلانه ، وما سكت عنه شرعنا توقفنا فيه : فلا نحكم عليه بصدق ولا بكذب ، وتجوز روايته ، لأن غالب ما يروى من ذلك راجع إلى القصص والأخبار ، لا إلى العقائد والأحكام ، وروايته ليست إلا مجرد حكاية له كما هو في كتبهم أو كما يحدثون به بصرف النظر عن كونه حقا أو غير حق
قال الشيخ الإسلام ابن تيمة ـ رحمه الله تعالى ـ : " الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ، فإنها على ثلاثة أقسام :
أحدهما : ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق . فذاك صحيح .
الثاني : ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه .
الثالث : ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ، ولا من هذا القبيل ، فلا نؤمن به ولا نكذبه ، ويجوز حكايته ، وغالب ذلك ما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرا ، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب أهل الكهف ولون كلبهم ، وعدتهم ، وعصا موسى عليه السلام من أي شجر كانت ، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم وتعيين البعض الذي ضرب به المقتول من البقرة ، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى ، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة من تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم ، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى : " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " . فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا ، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضعف القولين الأولين ، وسكت عن الثالث ، فدل على صحته ، إذ لو كان باطلا لرده كما ردها ، ثم أرشد إلى أن الإطلاع على عدتهم لا طائل تحته ، فيقال في مثل هذا : " قل ربي أعلم بعدتهم " فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ، ممن أطلعه الله عليه . فلهذا قال : " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا " أي : لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ، ولا تسألهم عن ذلك ، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب . فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف : أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام ، وأن يبينه على الصحيح منها ويبطل الباطل ، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته ، لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فيشغل به عن الأهم . فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص ، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه . ومن يحكي الخلاف ويطلق ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا ، فإن صحح غير الصحيح عامدا تعمد الكذب ، أو جاهلا فقد أخطأ . كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته ، أو حكي أقوالا متعددة لفظا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معني فقد ضيع الزمان ، وأكثر مما ليس بصحيح ، فهو كلابس ثوبي زور . والله الموفق للصواب " . وعلى ما تقدم ، فينبغي على الداعية غربلة كل ما يقرأ من قصص وحكايات خشية الوقوع في تكذيب نص من نصوص الشرع المطهر ، فيقع في المحظور ، ولا يسلم من الإثم .
قوله صلي الله عليه وسلم : " ومن كذب على متعمدا فلتبوأ مقعده من النار " : معناه : فلينزل ، وقيل : فليتخذ منزلة من النار .
وقيل : إنه دعاء بلفظ الأمر . أي : بوأه الله ذلك .
وقيل : هو خبر بلفظ الأمر . أي معناه فقد استوجب ذلك ، فليوطن نفسه عليه .
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ ما مختصره ومعناه : ثم معني الحديث : أن هذا جزاؤه ، قد يجازي به ، وقد يعفو الله عنه ، ولا يقطع عليه بدخول النار . وهكذا سبيل كل ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر ، غير الكفر ، فكلها يقال فيها هذا جزاؤه ، وقد يجازي وقد يعفي عنه . ثم إن جوزي وأدخل النار فلا يخلد فيها بل لا بد من خروجه منها بفضل الله تعالى ورحمته . ولا يخلد في النار أحد مات على التوحيد . وهذه قاعدة متفق عليها عند أهل السنة . وأما الكذب فهو الإخبار عن الشيء خلاف ما هو عمدا كان أو سهوا . . . . . ولا إثم على الناسي والغالط .
واعلم أن هذا الحديث يشتمل على فوائد وجمل من القواعد :
إحداهما : تقرير هذه القاعدة لأهل السنة أن الكذب يتناول إخبار العامد .
الثانية : تعظيم تحريم الكذب عليه صلي الله عليه وسلم وأنه فاحشة عظيمة ، وموبقة كبيرة ، ولكن لا يكفر بهذا الكذب إلا أن يستحله . هذا هو المشهور من مذاهب العلماء من الطائف .
وقال الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين أبى المعالي : " يكفر بتعمد الكذب عليه صلي الله عليه وسلم " .
وحكاه إمام الحرمين عن والده وأنه كان يقول في درسه كثيرا : " من كذب على رسول الله صلي الله عليه وسلم عمدا كفر وأريق دمه ! " .
وضعف إمام الحرمين هذا القول ، وقال : إنه لم يره لأحد من الأصحاب وإنه هفوة عظيمة .
الثالثة : أنه لا يفرق في تحريم الكذب عليه بين ما كان في الأحكام ، وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغي ذلك فكله حرام من أكبر الكبائر ، وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع . خلافا للكراهية المبتدعة في زعمهم الباطل : أنه يجوز وضع الحديث في الترغيب والترهيب !! وتابعهم على هذا كثيرون من الجهلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد . . . وزعم بعضهم أن هذا كذب له ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا كذب عليه !!. فخالفوا صريح هذه الأحاديث المتواترة ، والأحاديث الصريحة المشهورة في إعظام شهادة الزور . خالفوا أهل الحل والتعقد وغي ذلك من الدلائل القطعيات في تحريم الكذب على آحاد الناس ، فكيف بمن قوله شرع ، وكلامه وحي ؟
وفي الحديث : " من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ".
وقال العلماء : ينبغي لمن أراد رواية حديث أن ينظر فإن كان صحيحا أو حسنا ، قال : قال رسول الله ، وإن كان ضعيفا فلا يقل : قال ، أو فعل ، أو مر ، أو نهى . بل يقول : " روى " أو يذكر " أو " يحكي " أو " بلغنا " . وإذا اشتبه عليه لفظ في حديث يقول : أو كما قال والله أعلم " .
" اللهم نسألك إيمانا دائما ، وقلبا خاشعا ، ولسانا صادقا
3)أهمية السنة
عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : " دعوني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم علي أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ".
أخي المسلم : هذه "وصية" عظيمة الشأن ، تبين أهمية السنة ،وتحذر من الاختلاف ، انتهي عن كثرة المسائل على وجه التعنت والتكلف والتعمق وقد وردت بها عدة روايات متقاربة المعنى ، منها :
عن أبى هريرة قال : خطبنا رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال : "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج ".
فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟
فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله : "لو قلت :نعم لو جبت ولما استطعتم ".
ثم قال : " ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " وأخرجه " الدارقطنى"من وجه آخر مختصرا ، وقال فيه : فنزل قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤ كم ".
وعن ابن عباس ، كان قوم يسألون رسول الله صلي الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبى ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ..."رواه البخاري .
فدلت هذه الأحاديث على النهى عن السؤال عما لا يحتاج إليه ما يسوء السائل جوابه ، وعلى النهى عن السؤال على التعنت والبعث والاستهزاء كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم. وقريب من هذا : سؤال الآيات واقتراحها على وجه التعنت كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب . قال عكرمة : إن الآية نزلت في ذلك . ويقرب من ذلك السؤال عما أخفاه الله عن عباده ولم يطلعهم عليه كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح . ودلت ـ أيضا ـ على نهي المسلمين عن السؤال عن الحج هل يجب كل عام أم لا ؟
وفي " الصحيح " عن سعد بن أبى وقاص عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : "إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته " .
وقال الأوزاعى ـ رحمه الله ـ : " إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط ، فلقد رأيتهم أقل الناس علما ".
قلت : المغاليط : أو الأغلوطات : هي شداد المسائل كما قال الأوزعى .
وكان النبي صلي الله عليه وسلم ينهي عن : قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ولم يكن النبي صلي الله عليه وسلم يرخص في المسائل إلا للأعراب ونحوهم من الوفود القادمين عليه يتألفهم بذلك. فأما المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين رسخ الإيمان في قلوبهم فنهوا عن المسألة ، كما في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان ، قال : أقمت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة ، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلي الله عليه وسلم . وعن أنس رضي الله عنه قال : " نهينا أن نسأل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن شيء فكان عجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ".
وفي مسند " البزار " عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : ما رأيت قوما أخبر من أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن .
"يسألونك عن الخمر والميسر " .
"يسألونك عن الشهر الحرام ".
" يسألونك عن الأهلة ".
" ويسألونك عن اليتامى ". وذكر الحديث
وقد كان أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم أحيانا يسألون عن حكم حوادث قبل وقوعها لكن للعمل بها عند وقوعها كما قالوا له : " إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟".
وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها . فهذا الحديث وهو قوله صلي الله عليه وسلم : "ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " . يدل على كراهة المسائل وذمها ، ولكن بعض الناس يزعم أن ذلك كان مختصا بزمن النبي صلي الله عليه وسلم لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يحرم ، أو إيجاب ما يشق القيام به ، وهذا قد أمن بعد وفاته صلي الله عليه وسلم ، ولكن ليس هذا وحده هو سبب كراهة المسائل ، بل له سبب آخر وهو الذي أشار إليه ابن عباس في قوله : " ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه " . ومعنى هذا أن جميع ما يحتاج إليه المسلمون في دينهم لابد أن يبينه الله في كتابه العزيز ويبلغ ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم عنه فلا حاجة بعد هذا لأحد في السؤال ، فإن الله تعالى أعلم بمصالح عباده منهم ، فما كان فيه هدايتهم ونفعهم فإن الله تعالى لابد أن يبينه لهم ابتداء من غير سؤال كما قال : "يبين الله لكم أن تضلوا " .
وحينئذ فلا حاجة إلى السؤال عن شيء ولا سيما قبل وقوعه والحاجة إليه ، وإنما الحاجة المهمة إلى فهم ما أخبر الله به ورسوله ثم اتباع ذلك والعمل به .
وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يسأل عن المسائل فيحيل على القرآن كما سأله عمر بن الخطاب عن الكلالة ، فقال : " يكفيك آية الصيف " .
وأشار رسول الله في هذا الحديث إلى أن في الاشتغال بامتثال أمره واجتناب نهيه شغلا عن المسائل ، فقال : " فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ".
قال الأمام النووي-في شرحه لهذا الحديث- : " هذا الحديث من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلي الله عليه وسلم ، ويدخل فيه ما لا يحصي من الأحكام كالصلاة بأنواعها ، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتي بالباقي ، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن ، وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن ، وأشباه هذا غير منحصرة وهي مشهورة في كتب الفقه والمقصود التنبيه على أصل ذلك .
وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى : " فاتقوا الله ما استطعتم " .
وأما قوله تعالى : " اتقوا الله حق تقاته " ففيها مذهبان :
أحدهما : أنها منسوخة بقوله تعالى : " فاتقوا الله ما استطعتم " .
والثاني : وهو الصحيح أو الصواب وبه جزم المحققون أنها ليست منسوخة بل قوله تعالى :" فاتقوا الله ما استطعتم ".
مفسرة لها ومبينة للمراد بها . وقالوا : وحق تقاته : هو امتثال أمره واجتناب نهيه ، ولم يأمر سبحانه وتعالى إلا بالمستطاع قال تعالى : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " .
وقال تعالى : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " . والله أعلم
واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات ، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك ، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة ، وهذا منقول عن الإمام أحمد .
وقال ابن فرج في "شرح الأربعين " : قوله : "فاجتنبوه " هو على إطلاقه حتى يوجد ما يبيحه ، كأكل الميتة عند الضرورة ، وشرب الخمر عند الإكراه ، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب بالإيمان كما نطق القرآن .
وقال الإمام البغوى ـ رحمه الله تعالى ـ في " شرح السنة ": " المسائل على وجهين :
أحدهما : ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إلي من أمر الدين فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى : "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ". ، على ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما .
ثانيهما : ما كان على وجه التعنت والتكلف وهو المراد في هذا الحديث والله أعلم ".
وقال ابن العربي ـ رحمه الله تعالى ـ : " كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق عليهم ، فأما بعد فقد أمن ذلك لكن أكثر النقل عن السلف بكراهية الكلام في المسائل التي لم تقع " .
قال : " وإنه لمكروه إن لم يكن حراما إلا للعلماء فإنهم فرعوا ومهدوا فنفع الله من بعدهم بذلك ، ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم " ا.هـ ملخصا .
فالذي يتعين على المسام الاعتناء به الاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله صلي الله عليه وسلم ، ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معاينة ، ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية ، وإن كان من الأمور العلمية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب ما ينهى عنه فتكون همته مصروفه بالكلية إلى ذلك لا إلى غيره ، وهكذا كان حال أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة .
فأما إن كانت همة السامع مصروفه عند سماع الأمر والنهى إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع ، فإن هذا مما يدخل في النهى ويثبط عن الجد في متابعة الأمر . وقد سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر فقال له : رأيت النبي صلي لله عليه وسلم يستلمه ويقبله .
فقال له الرجل : أرأيت إن غلبت عنه ؟ أرأيت إن زوحمت ؟
فقال له ابن عمر : اجعل أرأيت باليمن ، رأيت رسول الله صلي الله علية وسلم يستلمه ويقلبه
ومراد ابن عمر أن لا يكون لك هم إلا في الاقتداء بالنبي ، ولا حاجة إلى فرض العجز عن ذلك أو تعسره قبل وقوعه ، فإنه يفترض العزم على التصميم على المتابعة ، فإن التفقه في الدين والسؤال عن العلم إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدال .
وروى عن على رضي الله عنه أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان فقال له عمر : متى ذلك يا على ؟
قال : إذا تفقه لغير الدين ، وتعلم لغير العمل ، والتمست الدنيا بعمل الآخرة .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :" كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، وتتخذ سنة فإن غيرت يوما قيل : هذا منكر !!" .
قال : " إذا قلت أمناؤكم ، وكثرت أمراؤكم ، وقلت فقهاؤكم ، وكثرت قراؤكم ، وتفقه لغير الدين ، والتمست الدنيا بعمل الآخرة ".
ولهذا المعني كان كثير من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها ولا يجيبون عن ذلك .
قال عمر بن مرة : خرج عمر على الناس فقال : " أحَرِج عليكم أن تسألونا عما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا".
وكان زيد بن ثابت سئل عن شيء يقول : كان هذا ؟
فإن قالوا : لا
قال : دعوه حتى يكون .
وعن الصلت بن راشد ، قال : سألت طاووسا عن شيء فانتهرني فقال : أكان هذا ؟
قلت : نعم
قال : آلله ؟
قلت : الله .
قال : إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: " يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهب بكم هاهنا وهاهنا ، فأنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد أو وفق " .
وقال الحسن : " شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يعمون بها عباد الله "
وقال ابن وهب عن مالك : " أدركت هذه البلدة وإنهم ليكرهون الإكثار الذي فيه الناس اليوم " يريد المسائل .
وقال أيضا : سمعت مالك وهو يعيب كثرة الكلام وكثرة الفتيا ثم قال: "يتكلم كأنه جمل مغتلم يقول : هو كذا هو كذا : يهدر في كلامه "
وقال : سمعت مالكا يكره الجواب في كثرة المسائل وقال : قال الله عز وجل : " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى " . فلم يأته في ذلك جواب ، فكان مالك يكره المجادلة عن السنن .
وكان مالك ـ رحمه الله ـ يقول : " المرء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل " .
وكان يقول : " المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغن "
وقد انقسم الناس في هذا الباب أقساما :
فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل حتى يقول فهمه وعمله بحدود ما أنزل الله على رسوله وصار حامل فقه غير فقيه .
ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها ما يقع في العادة منها وما لا يقع ، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك وكثرة الخصومات فيه والجدال عليه حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب ويستقر فيها بسبه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء ، ويقترن ذلك كثيرا بنيه المغالبة وطلب العلو والمباهاه وصرف وجوه الناس وهذا مما ذمه العلماء الربانيون ودلت السنة على قبحه وتحريمه : فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من طلب العلم ليباهي به العلماء ، ويماري به السفهاء ، أو يصرف وجوه الناس إليه فهو في النار " .
وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله وما يفسره من السنن الصحيحة وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، و عن سنة رسول اله صلي الله علية وسلم ومعرفة صحيحها وسقيلها ، ثم تفقه فيها وفهمها والقوف على معانيها ، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم والتفسير والحديث ومسائل الحلال والحرام وأصول ألسنه والزهد والرقائق وغير ذلك ، وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن يوافقه من علماء الحديث الربانيين .
وفي الجملة : فمن امتثل ما أمر به النبي صلي الله عليه وسلم وانتهى عما نهى عنه ، وكان مشتغلا بذلك عن غيره حصل له النجاة في الدنيا والآخرة .
ومن خالف ذلك وأشتغل بخواطره وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وعدم انقيادهم وطاعته لرسلهم .
وقوله صلي الله عليه وسلم : " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
يأخذ منه أن النهى أشد من الأمر ، لأن النهى لم يرخص في ارتكاب شيء منه ، والأمر قيد بحسب الاستطاعة . ولذلك قال صلي الله عليه وسلم : " أتق المحارم تكن أعبد الناس " .
وقال بن عمر رضي الله عنه : " لرد دانق مما يكرهه الله أحب إلى الله من خمسمائة حجه !!"
وقال بن المبارك ـ رحمه الله تعالى ـ : " لأن أرد درهما من شبهة أحب إلى من أن أتصدق بمائه آلف ، ومائه آلف ، حتى بلغ ستمائة آلف !!" .
ولما رأى الفضيل ولده يمسح كفة الميزان قبل الوزن ، قال له : " إن عملك هذا أفضل عند الله تعالى من حجتين وستين عمره !!"
نسأل الله تعالى التوفيق .
4)من أدب الإسلام
عن على بن طلق رضي الله عنه قال : قال رسول الله : "لا تأتوا النساء في أعجاز هن ، فإن الله لا يستحي من الحق ". والعجز : الدبر .
أخي المسلم : هذه الوصية المباركة، تعد معجزة عظيمة من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى . وقد جاء هذا التحذير في روايات أخرى كثيرة ، منها :
1ـ عن ابن عباس رضي الله عنه قال : "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر "
2ـ وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : "من أتي حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا ، فصدقه ، فقد طفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ".
3ـ وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله علية وسلم ، فقال : يا رسول الله ، هلكت
فقال : "وما الذي أهلكك ؟".
قال : حولت رحلي البارحة .
قال : فلم يرد عليه شيئا ، فأوحي الله إلى رسوله : (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ). " أقبل وأدبر ، واتق الحيضة والدبر ".
4ـ عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه : أن رجلا سأل النبي عن إتيان النساء في أدبارهن فقال : "حلال " , فلما ولى ، دعاه فقال : "كيف قلت ، في أي الخربتين ، أو في أي الخرزتين ، أو في أي الخصفتين أمن دبرها في قلبها ؟ فنعم .أم من دبرها ، فلا ، إن الله لا يستحي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن ".
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ معلقا على هذا الحديث : "ومن ها هنا نشأ الغلط من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة ، فإنهم أباحوا أن يكون الدبر طريقا إلى الوطء في الفرج ، فيطأ من الدبر لا في الدبر ، فاشتبه على السامع "من " ب"في" ولم يظن بينهما فرقا ، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة ، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه .
وقد قال تعالى :"فأتوهن من حيث أمركم الله " فقال : "تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها " يعني في الحيض .
وقال على بن أبى طلحة عنه : يقول :في الفرج ، ولا تعده إلى غيره.
5ـ وقال البغوى : حدثنا همام ،قال : سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها ؟
فقال : حدثني عمرو بن شعيب ،عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : "تلك اللوطية الصغرى ".
6ـ وفي "مسند الحارث بن أبي أسامة " من حديث أبي هريرة وابن عباس ، قالا : خطبنا رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل وفاته ،وهي آخر خطبة بالمدينة حتى لحق بالله عز وجل ،وعظنا فيها وقال : "من نكح امرأة في دبرها أو رجلا أو صبيا ، حشر يوم القيامة ، وريحه أنتن من الجيفة يتأذى به الناس حتى يدخل النار ، وأحبط الله أجره ، ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا ، ويدخل في تابوت من نار ، ويشد عليه مسامير من نار ". قال أبو هريرة : هذا لمن لم يتب .
7ـ وفي " الصحيحين " عن جابر ، قال : كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امراته في دبرها في قبلها ، كان الولد أحول ، فأنزل الله عز وجل : "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ".
وفي لفظ لمسلم : " إن شاء مجبية ، وإن شاء غير محبية ، غير أن ذلك في صمام واحد " .
والمجبية : المنكبة على وجهها ، والصمام الواحد : الفرج ، وهو موضع الحرث والولد .
وأما الدبر : فلم يبح قط علي لسان نبي من الأنبياء ، ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها ، فقد غلط عليه
وفي " سنن أبى داود " عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلي الله علية وسلم : " ملعون من أتى المرأة في دبرها " .
أخي الحبيب : " وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض ، فما بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسد بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء أدبار الصبيان .وأيضا : فللمرأة علي الزوج في الوطء ، ووطؤها في دبرها يفوت حقها ، ولا يقضى ، ولا يحصل مقصودها .
وأيضا : فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ، ولم يخلق له ، وإنما الذي هيئ له الفرج ، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا .
وأيضا : فإن ذلك مضر بالرجل ، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم ، ولأن للفرج خاصية في اجتذاب جميع الماء ، ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي .
وأيضا : يضر من وجه آخر ، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدا لمخالفته للطبيعة .
وأيضا : فإنه محل القذر ، فيستقبله الرجل بوجهه ، ويلابسه .
وأيضا : فإنه يضر بالمرأة جدا ، لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع ، منافر لها غاية المنافرة .
وأيضا : فإنه يحدث الهم والغم ، والنقرة عن الفاعل والمفعول .
وأيضا : فإنه يسود الوجه ، ويظلم الصدر ، ويطمس نور القلب ، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء يعرفها من له أدني فراسة.
وأيضا : فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد ، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد .
وأيضا : فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكاد يرجى بعده صلاح ، إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح .
وأيضا : فإنه يذهب بالمحاسن منهما ، ويكسوهما ضدها ، كما يذهب بالمودة بينهما ، ويبدلهما بها تباغضا وتلاعنا .
وأيضا : فإنه من أكبر زوال النعم ، وحلول النقم ، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله ، وإعراضه عن فاعله ، وعدم نظره إليه ، فأى خير يرجوه بعد هذا ، وأي شر بأمنه ، وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنه الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ، ولم ينظر إليه .
وأيضا : فإنه يذهب بالحياء جملة ، والحياء هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلب ، استحسن القبيح ، واستقبح الحسن ، وحينئذ فقد استحكم فساده .
وأيضا : فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله ، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان بل هو طبع منكوس ، وإذا نكس الطبع انتكس القلب ، والعمل ، والهدى ، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والهيئات ، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره .
وأيضا : فإنه يورث من الوحاقة والجرأة ما لا يورثه سواه .
وأيضا : فإنه يورث من المهانة والسفال والحقارة ما لا يورثه غيرة.
وأيضا : فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء ، وازدراء الناس له ، واحتقارهم إياه ، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحسن ، فصلاة الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به ، وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به " .
وقال الإمام القر